ARTIKEL ARAB

| |

بلورة الوعي العلمي تجاه الحديث النبوي

بقلم: أبو الأشبال نضال مشهود*

من المعروف الذي لا تستنكره فطرة كل مسلم صادق في دينه وعقله أن الغاية العظمى من إرساله تعالى الرسل وإنزاله الكتب هي هداية العباد إلى ما فيه صلاحهم ورشدهم . فحريّ بكل من ادعى الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا أن يجهد نفسه في التعرف على هدي الرسول الكريم عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم . ولا سبيل له الآن لتحقيق هذا الوطر العظيم إلا بمتابعة آثاره قولا وفعلا وتقريرا أو وصفا ظاهرا وباطنا . وإنما يتم ذلك من خلال مدارسة الأحاديث النبوية التى احتوتها دواوين السنة أو أفادها مشايخ الأمة ورموز ثوابتها ، معتمدين في ذلك على قواعد علم الحديث رواية ودراية ، متحرين طلب الحق والصواب في كل صغيرة وكبيرة ، مستعينين بعون الرحمن ومبتغين فيه رضا الديّان من غير أن نلتفت عنه يمنة ويسرة ، ففي ذلك الخير كله والصلاح كله . فما لم يكن بالله لا يكون ، وما لم يكن لله فلا ينفع ولا يدوم .

لكن « الحديث » و « علومه » كما قالوا : بحر لا ساحل له . فكم من باغى فهم فيه لا يدركه ، وكم من حريص على مقام فيه لا ينجزه ، وكم من طالب تحقيق إنما توفّته المنية من قبل أن يحسنه ويتقنه ؟! فالتحصيل على هذا العلم الشريف عزيز عزيز – وكل ميسر لما خلق له . إلا أن من رحمة الله علينا أنه تعالى لا يأمر العباد إلا بقدر ما استطاعوا وأحسنوا . كيف ، وهو الذي وهبهم الطاقة والهمة ابتداءً ، والذي أعانهم على بلوغ المرام هدايةً وتوفيقًا . ومع ذلك فهو نفسه الذي يشكرهم على ذلك الوصول حين الوصول جزأ وإحسانًا . فهو سبحانه الأول والآخر تبارك ربنا جل في علاه .

وعلاوة على ما سبق ، يجدر بنا أن نقدم لطالب هذا الفن الشريف معالم واضحة تنير له بإذن الله المسالك وتحذره من كل ما أدى إلى المهالك ، مكتفين هنا بعرض قضايا كلية تتعلق بمهمات هذا الفن مما لا يسع الطالب – المبتدئ فضلا عن المتقدم – جهله ونسيانه .

نقول : أولى خطوة لتمهيد هذا الطريق تصوير ماهية علم الحديث ومضامينه ومراميه . قال أبو شامه رحمه الله : « علوم الحديث الآن ثلاثة . أشرفها : حفظ متونه ، ومعرفة غريبها وفقهها ؛ والثاني : حفظ أسانيدها ، ومعرفة رجالها ، وتمييز صحيحها من سقيمها ؛ والثالث : جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وطلب العلو فيه » . وقد علق عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله : « من جمع هذه الثلاث ، كان فقيها محدثا كاملا . ومن انفرد باثنين منها ، كان دونه » . فلعلوم الحديث إذن ثلاثة عناصير : النقل ؛ والنقد ؛ والفقه . أو هي : الرواية ؛ والصيانة ؛ والدراية . فالأولى تقدّم للطالب المواد ، والثانية تفصل له الغلط عن السداد ، والأخيرة تأخذ بيده نحو تبيين المراد . قال الإمام النووي في شرح خطبة مسلم رحمهما الله : « إن المراد من علم الحديث : تحقيق معاني المتون ، وتحقيق علم الإسناد والمعلل . . . وليس المراد من هذا العلم مجرد السماع ولا الإسماع ولا الكتابة ؛ بل الاعتناء بتحقيقه ، والبحث عن خفي معانى المتون والأسانيد والفكر في ذلك ، ودوام الاعتناء به ، ومراجعة أهل المعرفة به » . وهكذا بين الأئمة مضامين هذا العلم ومراميه مجملا ، غير ناسين قولة أم الإمام مالك عندما أرسلته إلى شيخه ربيعة رحمهم الله تعالى رحمة واسعة : « تعلم من أدبه قبل أن تتعلم من علمه » . فالأدب باب الأبواب ونافذة النوافذ لكل جزئية من مباحث هذا الفن العزيز . وطالب الحديث بلا خلق ولا أدب ، كشجرة النخل بلا رطب ولا حطب . وأنى لهذين من معنى ؟!

وتلى تلكم الخطوة تبسط مباحث العناصير الثلاث المذكورة تبسيطا مفصلا بحيث يتمكن الطالب من تصوّر جزئياتها معرفةً وتطبيقًا . وقد اجتهد العلماء المؤلفين في هذا الفن من قديم الدهر أن يستوعبوا مباحثه ويوفوا الكلام في تفصيل قواعده . إلا أننا الآن بحاجة إلى إعادة الصياغة لترتيب تلك المباحث المبعثرة حتى يتسنى لأهل زماننا من الطلبة والباحثين أن يلم بتفاصيل هذا العلم على المنهجية المنسقة الهادفة . ولعل هذا الأمر هو ما دعا علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي إلى وضعه كتابه العجيب « قواعد التحديث » ، وتبعه على ذلك بعض من جاء بعده من المشايخ المعاصرين . ففي مباحث « النقل » يتعرف الطالب على تاريخ رواية الحديث وكتابته وتدوينه ، كما يتعرف على الأئمة المؤلفين وما أنتجوه من الكتب والأسفار ومناهجهم فيها وشروطهم . وكذلك يدرس فيها الطالب طرق الرواية وصيغ الأداء مع معرفة تباين العلماء في تحديدها . ثم يدرس لطائف الإسناد والمتن كالرواية المسلسلة والرواية بالمعنى ورواية الأكابر عن الأصاغر ، ومعرفة التصحيف والتحريف والمؤتلف والمختلف ، وكذلك معرفة الرفع والوصل والوقف والإرسال ، وما إلى ذلك من مباحث هذا الفن المتعلقة بأحوال الإسناد والمتن من حيث الشكل والمظهر .

ثم يتبعه الطالب بدراسة مباحث « النقد » . وهي على الجملة ثلاثة أشياء : معرفة أحوال الرجال من حيث الثوثيق والتجريح ؛ ومعرفة مدى اتصال السند وانقطاعها وأحكام كل نوع من أنواعها ؛ والثالث : معرفة الشذوذ والعلة مع الانتباه إلى الآثار المترتبة على وجودهما أو أحدهما في الحديث متنا وسندا . ويجرى الطالب بهذا الصدد على نفسه تمارين تؤهله للتطبيق مع استصحاب من أرشده إلى التحقيق فيه من أهل الخبرة واستعانة بالكتب المؤلفة في هذا الشأن : فالأولى بكتب التاريخ والتراجم ، والثانية بكتب الجرح والتعديل . وأما الثالثة بالاطلاع على ما كتبه الأئمة النقاد والفقهاء الأعلام في علل الحديث ومشكله ومختلِفه – وهي بحمد الله كثيرة متداولة . وبقدر ما يحصل عليه الطالب من الإلمام بقواعد النقد سندا ومتنا مع اقتداره على تطبيق تلك القواعد على الأحاديث المروية تطبيقا دقيقا موفقا ، بقدر ما يرتقى هو في سلم هذا العلم الشريف شيئا فشيئا إلى أن بلغ مبلغ الكبار أو نصفه أو دونه إلى معشاره . ولعل هذه المرحلة – مرحلة الدراسة النقدية لصحة الحديث وسقمه - من أعوص المراحل وأصعبها على الطلبة . فهي تحتاج إلى جهد جهيد وصبر حثيث ، مع اليقظة المستمرة والمتابعة المتواصلة ، وما ذلك على من وفقه الرحمن بعزيز .

وبعد أن يتجاوز الطالب دراسة العنصرين المذكورين دراسة كافية ، يقدم هو خطوة آخرة نحو دراسة « فقه الحديث » . فقرأ كتب الغريب والشروح وكل ما يتعلق بهذا الشأن ، مع الإلمام بقواعد أصول الفقه مما حققه أئمة السنة أمثال مالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم من المتقدمين أوأمثال ابن تيمية وابن القيم وابن رجب والشاطبي من المتأخرين – قدس الله أرواحهم وقرح ضرائحهم . ويلحق بهذا الأمر معرفة اختلاف المتون وأسباب الورود ، وكذلك معرفة الناسخ والمنسوخ وطرق الجمع والترجيح . وكلها باختصار : معرفة أدوات الاستنباط والاستدلال .

وإذا ما تم للطالب الوصول إلى هذه المرحلة ، عندها أصبح أهلا للدراية الكافية في الأحاديث النبوية . ولم يبق بعد ذلك إلا « العمل » و« النسر » . أعنى : « التطبيق » و« الدعوة » . وليس يعنى هذا أن الطالب يظل عاكفا معطلا عن العمل والدعوة مدة دراستهم علوم الحديث إلى أن يبلغ أوجها . كلا ! بل إن مثل هذه الدراسة لن يحقق الطالب كنهها إلا وقد فني عمره قبل أن يبلغ هو قمتها – فليس ذلك مما يقدر عليه العلماء المتقدمون – فضلا عن الطلبة المعاصرين . بل المقصود أن يمشي الطالب في طلبه العلم وعمله إياه على نسق منظم وترتيب مهذب ، بحيث لا تشوشه الأفكار المشتتة في أثناء الطلب ، ولا يعتريه فيه الكسل واليأس والفتور إلا قدرا يسيرا تجبره الهمة العالية والمحاسبة المتتالية . وبهذا تحقق للطالب - بإذن الله - بلورة وعيه العلمي المنيف تجاه الحديث النبوي الشريف .

وفي الختام ، نسأل الله أن يوفقنا للحق والسداد ، وأن يتقبل منا صالح الأعمال ويباركنا في العلوم والأرزاق والآجال . كما نرجوه سبحانه ونسأله أن يسلمنا من الخوض بالباطل ، أو القول عن هوى الجواهل ، أو الانتساب الساذج إلى أهل الفضائل . ونعوذ به تعالى من علم بلا تحقيق ، ونظر بلا توثيق ، وقلب بلا تصديق ، وعمل بغير إخلاص ولا توفيق . إنه ولي ذلك والقادر عليه . وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .

*) طالب بالدراسات العليا قسم الحديث وعلومه جامعة الأزهر الشريف

Posted by admin misykati on 6:59 AM. Filed under . You can follow any responses to this entry through the RSS 2.0. Feel free to leave a response

0 comments for "ARTIKEL ARAB"

Post a Comment